مع كل أزمة تظهر أفكار جديدة وبالمقابل تتتلاشى أخرى ، الفكرة التي تبدو أكثر الأفكار منطقية وأسهلها في التطبيق هي الفكرة التي تحظى بالدلال أكثر من أخواتها . فالأزمات تحل بشكل مفاجىء وهذه طبيعتها، وهي تستدعي حلولاً سريعة لذلك قد لا تكون الفكرة المدللة بالغالب أفضل الأفكار، ولكنها الفكرة التي تمّ تبنيها والتي نحتاج في بعض الأحيان أزمة أخرى لنرى كم أخطأنا في دلالانا لها !
في سبيعينيات القرن الماضي ساد الاقتصاد الأمريكي إحباط عام من أداء شركاتها التي شهدت تراجعاً في تنافسيتها مع الشركات الألمانية واليابانية المتعافيتين من آثار الحرب العالمية، فظهرت أفكار كثيرة لإستعادة الشركات الأمريكية عافيتها ومن بين الأفكار التي طرحت والتي تمّ تبنيها فكرة أو نظرية مايكل جنسن (نظريه الموكل والوكيل) والذي دعا إلى ربط حوافز وعلاوة مدراء الشركات بسعر السهم وهو ما جعل الإداري يقوم بأي شيء ليزيد سعر سهم شركته حتى لو كانت غير قانونية طالما أن نتائجها قصيرة المدى، وهو ما حدث بالفعل مع القطاع المصرفي والمالي الذي تبنى هذه الفكرة أو النظرية فتوسعت البنوك بالقروض وسهلت الحصول عليها وإبتدعوا حلول أخرى لتقليل المخاطر المالية للمدينين الغير قادرين على التسديد ، ولكن النموذج فشل وسبب بأزمة العام 2008 والتي إمتدت لسنوات، رغم معرفتهم المسبقة بآثارها ولكن كانت الأولوية لمصالحهم الشخصية الخاصة بالعلاوات والحوافز !
تختبر امريكا الآن نظرية أو فكرة جديدة وهي النظرية النقدية الحديثة، وتقوم أمريكا بالفعل بتجربتها، النظرية قديمة ولكن صاحب الفضل في تطويرها (راندال راي) وتعتبر (ستيفاني كيلتون) الوجه الإعلامي والدعائي للنظرية، النظرية ترى أن حل المشاكل الاقتصادية يكمن في طباعة المزيد من النقود طالما أن الدولة تقترض بنفس العملة التي تصدرها ، النظرية تشكل نهج جديد في صناعة السياسة من خلال توسيع مخيلتنا السياسية، فالدولة تدفع التكاليف من خلال التوفير في موارد دفع الكلفة ، فلا حاجة للدخل من المصادر المعتادة كالضرائب لأن الحكومة لا تشترط على الفرد ضريبة لحاجتها للدخل بل هي تعطي الفرد الدخل ليدفع الضريبة !
ترى ستيفاني أن الدولة تمتلك (الموازن التلقائي أو القطاعي) وهي الأدوات الحكومية التي تمنع التأثير السيء لزيادة المعروض من العملة بالاقتصاد لأن الإنفاق يرتبط بالدورة الإقتصادية وبالتالي الحكومة تمتلك التقنيات التي تستخدمها لتوليد الحاجة إلى الدولار من خلال البرنامج الفيدرالي لإعانات العاطلين عن العمل والسندات والضرائب ، بموجب النظرية معدلات الفائدة تبقى قريبة من الصفر ويتولى الكونجرس الوصايا على البنك الفيدرالي .
أمريكا لا تكتشف الآن النظرية النقدية الحديثة بل تعيد تجربتها، فامريكا طبقتها في الحرب العالمية الثانية حين ركزت على تعظيم مواردها لصناعة الأسلحة والأدوية دون القلق من عجز الموازنة الذي كان يتفاقم في ذلك الوقت !
Comments